يسير العقل الإنساني بطبيعته وفق قواعد وقوانين وبرمجيات ميكانيكية محددة، لا يستطيع في أغلب الأحيان الخروج عنها أو الابتعاد عن دائرتها، وبالطبع ليست كل هذه القواعد صائبة بل إن كثيرا منها يصطدم مع حقائق الواقع والوجود، ولا تؤيدها الأدلة والبراهين من خبرات الحياة، ولذلك نجد بعض المعادلات الحاكمة لقواعد العقل البشري يسير عليها التفكير اعتقادا أنها الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الخطأ والباطل من أي اتجاه، غير أن الوقائع المشهودة في الحياة تنطق بخلاف ذلك، ولذلك فالإنسان عندما يقدم الشق الأول من المعادلة يعتقد اعتقادا جازما أن الشق الآخر سيأتي بالنتائج المتوافقة مع هذه المقدمات، ثم يفاجئ بنتائج على خلاف ما كان يتوقع ويعتقد، فتصيبه الحيرة والارتباك وتتسبب هذه الحالة بزيادة الضغوط والأعباء النفسية داخل الشخص مما قد يؤدي به إلى بعض مظاهر المشكلات والاضطرابات النفسية، حيث لا يجد بداخله تفسيرا منطقيا يقتنع به عقله أمام هذه التناقضات بين المقدمات والنتائج.
لكن الحقيقة أن سر هذا التناقض وتلك الحيرة التي يقع فيها الشخص لا يرجع إلى عدم اتساق أجزاء المعادلة فيما بينها، بل إن السر هو عجز تفكير الشخص عن الوصول إلى حقيقة الأمور على وجهها المكتمل، والنظر إلى القضية من زاوية واحدة فقط دون التمتع بالمرونة الكافية التي ترى الحقائق من زوايا نظر متعددة ومن جهات مختلفة، ومن هنا يدور الحديث حول بعض هذه المعادلات التي يراها العقل البشري متناقضة، وهي في الواقع تسير وفق حكمة عليا تغيب عن إدراك هذا العقل.
*معادلة الرزق: يقتنع العقل البشري بالمعادلة التي تؤكد أن كثرة عمل الفرد والتعب والمشقة يقابلها في النتيجة زيادة في الرزق المادي وكثرة المال، وعندما ننظر إلى واقع البشر نجد ما يثبت كذب هذه المعادلة حيث نرى أمام أعيننا من يبذل كافة جهده وكامل طاقته في العمل ويحاول بشتى الطرق تحصيل أكثر ما يمكنه من المال، ولا يحصد من كل هذه الأعمال والمشاق إلا النزر اليسير، ويصبح حينها الإنسان في حالة من الحيرة والعجب الشديد من عدم تحقق هذه المعادلة التي تسكن أعماق تفكيره وعقله، غير أن الحقيقة الجوهرية لهذه المعادلة تنطق بمعنى أكثر عمقا وأقوى بريقا من هذه النظرة السطحية للأمور، وهي أن عطاء الله تعالى في رزق الإنسان لا يتوقف أبدا على الكم المادي الملموس الذي يحصل عليه الإنسان من عمله، بل إن الله تعالى يعطي بحكمته القدر الذي يتحمله الإنسان حتى لا تغتر نفسه فتتأثر هذه النفس بالشكل الذي تبتعد به عن طريق الله بالتدريج فإذا به يخسر نفسه أولا ثم يخسر قدره ومكانته عند الله في الدنيا والأخرة، وفي هذه الحالة تجد أن المنع الإلهي هو قمة العطاء المستور والكرم الخفي الذي يغمر الإنسان، وفي ذلك قول الله تعالى: “ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض بغير الحق”، ونجد الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الله تعالى: (إن من عبادي من صلاح حاله في الفقر فلو أغنيته لفسد حاله)، ومن هذا المعنى تجد أن المعادلة التي كنت تراها كاذبة وفق قواعد عقلك وتفكيرك هي في الحقيقة صادقة وفق الجوهر الحكيم للتفكير الرشيد.
*معادلة التربية: تشير المعادلة الساكنة داخل العقل إلى أن تنشئة الأطفال بالطرق السوية والمستقيمة ينتج عنها دائما شخصيات سوية لا ينتابهم الانحراف والخلل أبدا، ثم ننظر في الواقع المعاش فنجد الحقيقة الصادمة لثوابت العقل غير ذلك، وهي أن عددا ليس بالقليل من الآباء والأمهات يحرصون على تنشئة أبنائهم على كل خلق قويم، ثم تأتي النتائج مخيبة للآمال من انحراف أبنائهم عن الطريق المستقيم، فضلا عن المعايب المخزية في سمات شخصياتهم، وفي هذا الشأن تتجلى الحقيقة الجوهرية لقضية التربية ليست كما يراها العقل؛ حيث إن العقل يرى في معادلاته أن الإنسان يمتلك في يده زمام الأمور ومسارها وتطورها، وفي الحقيقة، إن زمام الأمر كله بيد الله تعالى وحده، حيث إن هداية القلوب لا يملكها بشر لبشر مطلقا؛ وإلا لما قتل قابيل هابيل وهما ولدا نبي مرسل، ولما انتهى مصير ابن نوح عليه السلام -وهو من أولي العزم من الرسل- غريقا بكفره في أمواج الطوفان، ولما وجدنا النقيض في إبراهيم عليه السلام وقد كان أبوه الذي رباه صانعا للأصنام في قومه، فمن كل هذه النماذج وغيرها نستخلص جوهر الحقيقة أن معادلة التربية التي يقتنع بها عقلك ينقصها أهم العناصر وهو عنصر الهداية القلبية من الله تعالى، فليست المعادلة كما تعتقد أن مشقة التربية يقابلها استقامة الطبع والسلوك لدى الأبناء، وإنما هداية الله تعالى تقع بين طرفي المعادلة كعنصر يغير مسارها كما يشاء الله لها أن تسير لحكمته بصلاح القلوب ومن يستحق هذه النعمة ومن لا يستحقها.
*معادلة رفاهية الحياة: تلك المعادلة التي يشكو منها كثير من البشر، وهي تشير إلى قناعة العقل بأن الالتزام الديني وكثرة الطاعات والعبادات التي يقوم بها الشخص يقابلها في الطرف الآخر فتح أبواب نعيم الحياة ورفاهيتها، غير أن الواقع أيضا يأتي صادما عند الكثيرين، حيث نجد كثيرا من الملتزمين والصالحين يصيبهم عسر الحال وضيق المعاش، ويقف العقل حائرا أمام هذه الحال ويملأه العجب والدهشة، وعند النظر إلى جوهر الحقيقة في معناها الصادق نجد أن الله تعالى قد توعد البعيدين عن طاعته بالمعيشة الضنك في قوله تعالى: “ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا”، فكيف يتسق معنى الآية مع الواقع الذي نراه في حياتنا، ونقول في هذا الشأن أنه لا عجب في ذلك لأن ضنك المعيشة لا يقصد به افتقار الثراء المادي ورفاهية الحياة الشكلية، وإنما هو ضنك النفوس وإفلاسها من معاني السكون والسلام الداخلي والتصالح الذاتي، وتجد الدليل في ذلك أن أعلى دول العالم رفاهية هي أعلى دول العالم في نسب الانتحار، وتتأكد هذه الحقيقة في قول الله تعالى في آية أخرى: “فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون”، وبذلك تتسق المعادلة بمعناها الصحيح داخل العقل البشري إذ يتبع الطاعة والالتزام الديني شعور الراحة والرضا الذاتي والنعيم النفسي وليس ماديات الحياة وبريقها الزائف.
* ومن مثل هذه النماذج من المعادلات الذهنية نستخلص الحقيقة الواضحة، وهي أن قناعات العقل اليقينية في بعض الأمور ينقصها زوايا أخرى للنظر حتى نصل إلى حقيقتها الصائبة، وبذلك يزول العجب من الوقائع التي تتناقض وتصطدم مع قناعات العقل ومعتقداته، فمن أراد لنفسه السلامة من هذه الحيرة والارتباك عليه أن يعلم أن العقل في كثير من الأحيان لا يرى العوامل الخفية التي تشكل نتائج المعادلات.
وختاما، إذا رأيت نتائج أي معادلة لا تنسجم مع مقدماتها، فاعلم أن حكمة الله غالبة.