تعد قضية “الإلحاد” من القضايا الشائكة التي قد يتحرج البعض من الخوض فيها؛ نظرا لحساسيتها وتعقد تفاصيلها وجوانبها، وهي من القضايا القديمة الجديدة والمستمرة عبر العصور المختلفة، غير أني في هذه المقالة أود تسليط الضوء على الجانب النفسي منها، فهذه الظاهرة نجدها اليوم – مع الأسف – تتسع دائرتها بين صغار الشباب في الأعمار المبكرة بشكل ملفت للأنظار. ويقصد بمصطلح الإلحاد في معناه المباشر والمختصر “إنكار وجود الله وعدم الاعتراف بالأديان السماوية جميعها”، حيث تجد في عقل الملحد بعض الأفكار المتشابكة بشكل أو بآخر التي يراها من وجهة نظره تدفعه إلى استخلاص نتيجة أن الكون ليس له خالق، وأن الأديان السماوية هي فقط أفكار من صنع البشر، فلا يوجد إله يدير هذا الكون بكل ظواهره، وإنما تحكمه المصادفات والقوانين الطبيعية التي تعمل من تلقاء نفسها بلا قيادة حاكمة لهذه القوانين والمصادفات.
وعندما نتأمل هذه المعتقدات التي تسكن عقول الملحدين لا نجد إلا حقيقة واحدة تعلن عن نفسها، وهي أنها معتقدات ربما تعبر في بعض الحالات عن صراعات معقدة واضطرابات نفسية داخلية، إذ لا نجد من وراء هذه المعتقدات عقلا منطقيا يحمل رؤية واضحة، وإنما مجموعة من الأفكار المتضاربة والمتناقضة مع ذاتها ومع الواقع، فالعقل السليم الذي يرى الحقائق باتزان لا يقبل بأن الكون قد صنع نفسه بنفسه؛ وإن ظواهر الطبيعة تسير بالمصادفات، بل يجد العجب في الاعتقاد بأن قوانين الطبيعة تصنع نفسها بنفسها وتسير بهذا الانتظام بلا إرادة محركة وموجهة لها، والأعجب كيف يقبل عقل الإنسان الجمع بين كلمة المصادفة وكلمة القوانين؟؟؟ ثم تجد في نفس الملحد نفورا غير مبرر من كل ضوابط وأحكام الدين، فيبحث عن مسكن أو مخدر لما تبقى بداخله من صراع الضمير، فيدعي أنه يتبنى الفكر الإلحادي وأنه يقبل بتصنيفه كملحد، ويعتقد بذلك أنه يريح جانبا من صراعه الداخلي، فينطلق ليبيح لنفسه مايشاء دون قيود أو حدود.
وإذا أردنا تناول قضية الإلحاد من منظورها النفسي، نجد أن بعضا ممن ينتمون إلى الفكر الإلحادي تحركهم العوامل النفسية الآتية: *خلل التنشئة: إذ إن التنشئة الاجتماعية للأطفال والمراهقين عندما يشوبها الخلل والتخبط ينتج عنها انحرافات داخل شخصية الفرد، ولذلك نجد من أساليب التنشئة الخاطئة التي قد ينتج عنها الفكر الإلحادي أسلوب التسلط المبالغ فيه الذي يفرض القيود والقواعد الصارمة على الأبناء والتدخل في أدق تفاصيل اختياراتهم الخاصة مثل نوعية التخصص الدراسي واختيار الأصدقاء بل التدخل في كافة أمور الحياة الشخصية، فتظهر بعد ذلك العواقب في شخصية الأبناء عندما يصلون لمرحلة المراهقة والشباب متخذة صورة ميل عنيف نحو كسر كافة القيود الصحيح منها والخاطئ، فتكون البداية بالتمرد على قواعد الأسرة ثم قواعد المجتمع وعاداته، ثم يحدث التطاول فيسقطون هيبة الدين من باب الإدعاء باقتناعهم بالفكر الإلحادي، وذلك تعبيرا عن وجودهم الشخصي وإثباتا لمكانتهم ولو بالصورة السلبية، فنجد في هذه الحالة أن الصراع الداخلي في نفوس بعض المراهقين إنما ينتج في المقام الأول من البيئة التسلطية التي نشأوا فيها، فما يلبث المراهق إلا أن يعلن عن وجوده بهذا الشكل الفج، محطما كافة القواعد والضوابط، ولذلك فإن حرص الأهل على اختيار أسلوب التنشئة الصحيح مثل أسلوب المرونة الحازمة القائم على الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل يمثل وقاية لعقول ونفوس الأبناء من الاتجاه نحو الفكر الإلحادي وشروره المدمرة.
*شيوع روح الاستهانة: إن من العوامل المؤدية إلى الفكر الإلحادي عدم تعظيم المقدسات في نفوس النشء من الأطفال والمراهقين، فإن النشأة على تعظيم وتوقير القيم العليا والمعاني الأصيلة يجعل في النفس قدسية لها، فيشعر الإنسان بمدى أهميتها وعمق أثرها في كيانه الشخصي ومدى أهمية وجودها في حياته، فلا يستطيع تصور المساس بهذه المعاني العليا، أما ما نراه في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والحوار الدائر بين الأصدقاء في مرحلة المراهقة تحديدا، من كل أشكال الاستهانة بعظائم القضايا ومقدسات الحياة، وأصبح كل شئ مباح الحديث فيه من باب المرح والفكاهة، جعل نفوس النشء الصغير لا يعمرها إلا صغائر المعاني ولغو الحديث وتوافه الكلمات، فلا نبحث بعد ذلك عن توقير قيم الدين العليا في نفوسهم، وقد استهانوا من باب اللغو بكل القيم، ولذلك فمن الأجدر منذ البداية تنشئة الأطفال منذ صغرهم على توقير المعاني والقيم، وعدم المساس بكل ما له شأن عظيم في واقع الحياة، وتجد تأكيد هذا المعنى في قول الله تعالى: “وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره”.
*عدم تحمل الضغوط وصعوبات الحياة: إن من العوامل الخفية التي قد تدفع البعض إلى الإلحاد، تكرار الضغوط والصعوبات وربما الصدمات العنيفة في حياة الفرد، ولا يستطيع احتمال الألم النفسي الناتج عنها، فتثور بداخله ثورة الاعتراض والتمرد على أقدار الله تعالى، معلنا أنه ينكر وجود الله ووجود الأديان، وعند النظر إلى هذا العامل الداخلي تجد أن السبب الحقيقي هو الهشاشة النفسية لهذا الشخص، وضعف إيمانه ويقينه الداخلي بالله تعالى، فعندما يريد الله أن يمتحنه ببعض الصعوبات إذا به يرسب في هذا الامتحان الإلهي، فيبتعد عن الدين بالكلية، وكأنه بذلك يريح عقله ونفسه من عناء فهم الحكمة من وراء أقدار الله، ولمثل هؤلاء نقول أن الإيمان الحق واليقين الراسخ إنما يزيد داخل النفس السوية مع تكرار الأزمات وتعاقب الصعوبات ولا ينقص، ذلك لأن القلب العامر بالإيمان يجعل صاحبه يبحث عن حكمة الله العليا في مقادير الحياة، ولذلك اجعل دائما في عقلك وقلبك الثقة التامة بالعدل الإلهي فلو أنك فعلت كل الخير وأصابك كل السوء لا تشك في حكمة الله لحظة، واعلم أن الله يختار لك ما يناسبك من الخير ولكنك لا تزال تجهل أبعاد حكمته.
*الفضول غير الموجه: تشير الدراسات النفسية وخاصة في علم النفس الارتقائي إلى أن مرحلة الطفولة الوسطى والمتأخرة المتمثلة في العمر ما بين السادسة إلى الثانية عشر تقريبا، تظهر لدى أبناء هذه المرحلة العمرية مظهر من مظاهر الجرأة والمغامرة العقلية والتي تظهر على هيئة تساؤلات من أمثلة: (من خلق الله؟، من أين أتى الله؟، لماذا خلقنا الله؟) وغير ذلك، وإن الأهل في حالة مسئولية كبيرة عند التعرض لهذه التساؤلات، ذلك بتوفير الرعاية المعرفية الكافية لعقول هؤلاء الأطفال من خلال توفير الحوار المرن المتقبل بلا تعنيف أو عقاب، فإذا ترك الأهل هذا الفضول العقلي بلا توجيه أو معالجة، سيسعى الطفل إلى البحث من خلال مصادر غير موثوق فيها مثل شبكات الانترنت التي تمتلأ بمواقع للملحدين فإذا به يسقط في حبائل أفكارهم المشوهة، فيخرج من هذه المواقع والشكوك تملأ عقله وقد كان يبحث في البداية عن أجوبة لتساؤلاته البريئة، لذلك فليحرص الأهل على توفير المعلومات السوية والصحيحة وتبسيط المفاهيم باللغة التي يستوعبها الطفل حرصا على توجيه فضوله البرئ إلى المسار الصائب.
*التبعية العمياء: إن من بين العوامل التي قد تتسبب في توجه الفرد نحو الإلحاد أنه يتبع أحد علماء الدين بلا بصيرة أو عقل واع، فإذا ظهر له أن هذا العالم ليس كما يظنه وأنه على خلاف ظاهره إذا به يسقط في بئر التمرد على الدين، لأنه لم يفصل بداخله بين اتباعه لتعاليم الدين واتباعه لهذا العالم وفي ذلك الخطر العظيم، ولذلك فليحرص الجميع على تنزيه أمور الدين عن أخطاء البشر، فإذا سقط الشخص لا تسقط معه هيبة الدين، وفي ذلك يقول الإمام علي رضي الله عنه: (اعرفوا الرجال بالحق، ولا تعرفوا الحق بالرجال) أي أن المقياس هو الحق الذي نقيس عليه أفعال البشر في حال الإحسان والإساءة، ولا نقيس أمور الدين على الأشخاص وكأنهم هم المعيار ففي ذلك الخلط العظيم.
* إن قضية الإلحاد من القضايا عميقة الجذور ومتشعبة الأرجاء، وإنها من أجراس الخطر التي تدق الأسماع في كل العصور، وإن لها زوايا عديدة ودوافع شتى، ولكن نهاية الطريق واحدة. وقديما سأل أحد الملحدين رجلا من الصالحين وهو يستهزأ به قائلا: (يا إمام أنت تعبد الله وتحرم نفسك من كل رغبات الحياة، كيف سيكون موقفك عندما تموت وتكتشف أن الله ليس حقيقة؟؟) فرد عليه الرجل الصالح بثبات الإيمان في قلبه ونور اليقين في روحه: (لن يكون أسوأ من موقفك عندما تموت وتكتشف أنه حقيقة) وختاما نقول لكل من ابتعدوا عن طريق الله: (اذهبوا إلى الله طوعا، قبل أن تذهبوا إليه قهرا).
معالج نفسي معتمد من وزارة الصحة وعضو الجمعية المصرية للمعالجين النفسيين