يبحث الإنسان بطبعه عن حالات الراحة النفسية والتوازن الشخصي، وإن أكثر الطرق ضمانا لتحقيق هذه الحالات بالشكل المنطقي والمعقول، هو طريق الاعتدال والتوسط بين الطرفين المتقابلين في كافة أمور الحياة؛ فإن التعادلية الناضجة عند التعامل مع مقتضيات وقائع الحياة تجعل الشخص في حالة من التوازن في السعي خلف الأهداف والمقاصد مما يفتح آفاقا مشرقة نحو السلامة النفسية الذاتية والارتقاء الشخصي في مجالات الحياة، وسيجني من وراء ذلك ثمارا يانعة من لذة الهدوء والسكينة النفسية، وسنعرض بعضا من حالات الوسطية بين الأطراف المتقابلة في محاولة لإثبات قيمة الاعتدال وأثرها على إيجابية الصحة النفسية.
*التبلد مقابل القلق الحاد: أشارت الدراسات العلمية النفسية المتتابعة إلى أن أفضل حالات المزاج الوجداني التي تدفع الشخص إلى العمل المتقن والتفكير الإبداعي أن يتوافر لديه مستوى من القلق الوسطي المعتدل؛ وليس المستوى المنخفض أو المرتفع؛ ذلك أن مستوى القلق المنخفض والمتدني يجعل الشخص في حالة من البلادة واللامبالاة والإهمال فيفشل في أداء مهامه الدراسية والعملية، وعلى الجانب المقابل فإن المستوى المرتفع والحاد من القلق له عواقبه وأضراره العديدة التي تتمثل في التشتت الذهني وعدم التركيز وتطاير الأفكار وجمود الفكر وتخبط الأحكام والقرارات، وفي هذه الحالة أيضا لا يستطيع الفرد إنجاز أعماله ومهامه على الوجه الصحيح، أما الاعتدال والمستوى الوسطي من القلق فإن له الأثر الإيجابي الحميد على حالة الشخص العقلية والوجدانية والسلوكية؛ حيث إن هذا المستوى يحفز الشخص ويدفعه إلى إتقان العمل بالصبر والمثابرة، وفي نفس الوقت يستطيع الفرد أن يتحكم ويسيطر على هذا المستوى من القلق فلا يسمح له بتشتيته؛ محققا بذلك الأداء المتوقع منه في أعلى وأرقى مستويات النجاح والتميز. *السطحية مقابل التعقيد: أشارت بعض بحوث علم النفس المعرفي إلى أن الأخطاء المعرفية في طريقة التفكير أو ما يطلق عليها علميا اسم “التشويهات المعرفية” هي المسببة بشكل كبير لما قد يعانيه الشخص من الأعباء والمتاعب النفسية، ولذلك فإن من بين هذه التشويهات المعرفية ما يعرف بتشويهات “التهوين مقابل التهويل”، والمقصود بهذا النوع من الخطأ المعرفي في التفكير أن يميل العقل في فهمه للأمور والأحداث في اتجاه طرفين متقابلين كلاهما غير صائب، فأما طرف التهوين فإنه يجعل الشخص يميل نحو تصغير المهام الجادة والاستهانة بأهميتها والاستهتار بأداءها، وفي ذلك بالطبع تظهر عواقب الفشل سواء دراسيا أم عمليا، أما التهويل فإنه يجعل الشخص يميل نحو المبالغة غير الحكيمة في مستويات المهام والأحداث، مما يشكل آثارا نفسية سيئة من الضغوط والأعباء التي يتصورها الفرد وهي في الواقع ليست بهذه الصورة المزعجة، ومن ثم فإن ميزان الاعتدال في الرؤية الحكيمة للأمور تجعل الشخص يرى الأشياء بحجمها الطبيعي بلا تهوين ولا تهويل، فيصبح الاعتدال في هذه الحالة من العلاجات النفسية المريحة للنفس من أعباءها المتوهمة، ويسير إيقاع حياة الشخص بالتوازن المنطقي نحو الهدف المنشود. *الإهمال مقابل الاحتراق النفسي: ظهر مؤخرا في البحوث النفسية مصطلح الاحتراق النفسي، ويقصد به تراكم المهام والأعباء المكلف بها الشخص والمطلوب منه أداءها، ذلك بسبب انغماس الشخص بشكل مبالغ فيه في أداء العديد من المهام والأدوار بما لا تسمح به مساحة وقته أو مقدار ما يتوافر لديه من جهد، وذلك بالطبع مما يصل بالفرد إلى حالة من استنزاف الطاقة والتي ستنعكس بالسلب على كافة مجالات حياته فلا يستطيع إكمال المهام أو جودة وكفاءة ما يقوم به من أعمال، والطرف المقابل لهذه الحالة هو طرف الشخصية المهملة والاعتمادية وهذا الشخص في حالة تناقض حالة الاحتراق النفسي إذ لا يبذل جهدا مذكورا في أداء أدنى مستويات أعماله بل يظل يتواكل ويعتمد على من حوله كي ينوبون عنه في أداء المهام المكلف هو بتأديتها، وهذه الحالة أيضا لها مساوئ عديدة وعلى رأسها فقدان القيمة والأثر الفعال في مجالات العمل والحياة، لأنه شخص غير مسئول ولا يستطيع إثبات وجوده أو تحقيق أقل درجات النجاح الشخصي، أما الاعتدال الرشيد بين هذين الطرفين فيجعل الشخص يتحرك في مساعيه منتظما ومنضبطا وفق قواعد زمنية يتحرك من خلالها، فهو لا يكلف نفسه فوق جهده ووقته وأيضا لا يترك نفسه فارغا من مضمون السعي خلف النجاح والطموح، وبذلك تتحقق المعادلة المستقيمة للكفاءة الشخصية وفق ميزان الاعتدال. *التساهل مقابل التشدد: من القضايا المعاصرة ذات الأهمية في مجالات علوم عديدة مثل: علم النفس وعلم الاجتماع وعلم السياسة، قضية التطرف والتشدد الفكري، حيث يبالغ المتطرفون في أحكامهم على الأحداث والموضوعات والأشخاص، إلى حد تكفير الآخر وتعمد إخراجه من دائرة الإيمان بالكامل، وفي الطرف النقيض نجد المتساهلين في قيم الدين إلى حد الإلحاد وإنكار الأديان، ووفق هذه القضية الشائكة تبرز أهمية ميزان الاعتدال الوسطي حيث لا تساهل في قضايا الدين إلى حد الابتعاد عن حقيقة مسئولية الإنسان تجاه خالقه، وأيضا لا تشدد إلى حد التطرف والتعصب والجمود الفكري وقسوة الأحكام في طرد المخالفين من حيز الدين والإيمان، فالوسطية والاعتدال هما شعار ديننا العظيم وشعار العقل الحكيم وشعار النفس الناضجة السوية، ومما يؤكد هذه الحقائق ما أشارت إليه آيات القرآن الكريم في قول الله تعالى: “وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله” “وكذلك جعلناكم أمة وسطا” “ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا” “والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما” وأيضا ما ورد على لسان نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: (خير الأمور أوسطها، لا إفراط ولا تفريط) محمد عبد الحليم صالح معالج نفسي معتمد من وزارة الصحة وعضو الجمعية المصرية للمعالجين النفسيين