
تقرير: محمد عبدالحليم صالح
اللغة والهوية الشخصية تمثل الكلمات والمفردات وسائل التعبير عن خفايا العقول والنفوس، وإنما تتجسد المعاني عندما ينطق بها اللسان بالأقوال والألفاظ، وعلى قدر عمق المعاني وأصالة جوهرها تأتي الكلمات الراقية ذات البريق والأثر في جمال المنطق واستقامة المعنى وروعة الصياغة، وإن الحديث عن اللغة وأثرها حديث لا يستهان به في مدلول معالم الشخصية الإنسانية، فعلى قدر جمال اللغة ورقي الكلمات يتبين مدى الرقي الشخصي للإنسان وتتبين معالم سماته الشخصية، كما يقول الإمام علي – رضي الله عنه – (المرء مخبوء تحت لسانه)، فعندما ينطق اللسان يظهر المحتوى الكامن للذات الشخصية للفرد، ولذلك يشير عدد من علماء النفس المعاصرين أن لغة الفرد تعادل شخصيته، فهي بمثابة المرآة التي ينعكس من خلالها سمات الشخصية الإنسانية.
وإنني في هذه المقالة أتطرق إلى الحديث عن اللغة لما نلاحظه في الزمن الراهن بشكل لا يخفى على أحد من عدم التمسك باللغة الأصيلة لثقافة الفرد والمجتمع، فنجد أبناء الأجيال الحالية يخلطون أثناء حديثهم بين مفردات لغتهم العربية وبعض مفردات اللغة الإنجليزية بلا أي داع يستوجب ذلك، سوى ما قد تستشعره أثناء حديثهم من الاستعراض الشكلي بلا أي محتوى مقصود، وبالطبع لا ننكر أن استخدام الفرد لمفردات لغة أخرى إذا كان بسبب ضرورة مثل توضيح معنى اصطلاحي محدد في سياق علمي أو مهني فلا يؤخذ على الشخص حينئذ هذا الاستخدام، لكن المثير للعجب ما نلاحظه من اتساع ظاهرة ابتعاد صغار الشباب عن لغة ثقافتهم الأساسية، ويتعمدون مزج محتواها بمفردات اللغات الأخرى أثناء حديثهم اليومي بلا ضرورة تقف وراء هذا السلوك، والأعجب من كل هذا اتساع وانتشار ظاهرة الكتابة بأحرف (الفرانكو)، وهي المزج بين نطق أحرف اللغة العربية مع أحرف اللغة الإنجليزية مع خليط لبعض الأرقام، وهو ما يعد تدميرا للغتين معا، فأنت في هذه الحالة تقف على الحافة بين لغتين دونما إتقان لإحداهما، ثم تجد بعد ذلك من تكملة المشهد المضطرب أنك عندما تطلب من أبناء الجيل الحالي كتابة أية فقرة أو رسالة فإنه لا يستطيع أن يعبر ويكتب إلا بأحرف الفرانكو، في حين أنك إذا طلبت منه كتابتها بلغته العربية تجد أخطاءا فادحة في الصياغة اللغوية بل في كتابة الأحرف ذاتها من أصل بناء الكلمات، وإذا طلبت منه كتابة نفس المعنى باللغة الإنجليزية باستخدام قواعدها وأصولها الصحيحة فإنه لا يستطيع أيضا، فمن كل ذلك نستطيع أن نستخلص حقيقة واضحة وهي أن أبناء الجيل الراهن تنساب لغتهم من بين أيديهم وتذوب حروفها وتمتزج مع لغات أخرى، فلا تجد بعد ذلك إلا ذوبان في الهوية الشخصية، وضياع معالم الذات والسمات النفسية للفرد، وعدم تماسك مبادئ كيانه الشخصي، فإن التفريط في اللغة الأساسية للفرد يتبعه التفريط في ملامح هويته الشخصية.
اقرأ أيضًا: جوانب من حضارة العرب قبل الإسلام
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من حكمته العليا أنه كان ينهى الصحابة الأجلاء عن مخالطة الأسواق إلا في موضع الضرورة فقط، ذلك حتى لا تتأثر لغتهم المهذبة الراقية بلغة العامة والسوقة، لأنه يصنع جيلا من الرواد الأوائل وهم من سيحملون من بعده مسئولية قيادة الدعوة وقيادة الدولة الإسلامية ونقل تراثها الحضاري والأخلاقي والقيمي إلى شتى بقاع الأرض، فأراد بذلك صلى الله عليه وسلم أن يعصم ألسنة أصحابه الكرام من سوقية الكلام حتى يحفظ لهم رقيهم الفكري والأخلاقي واللفظي، وقد تحقق ذلك بالفعل فما إن تسمع قولا لأحد الصحابة في أي موضع إلا وتجد حكمة المعنى وبلاغة التعبير تنساب بين الكلمات كالنهر الصافي الرقراق، نظرا لجمال داخلهم وظاهرهم ونقاء فكرهم واستقامة ألسنتهم، فإن كثرة مخالطة العامة والتعرض لكلماتهم غير المضبوطة قد تنعكس بالأثر السلبي على محتوى الفكر وسلامة اللغة.
وأخيرا يجدر الإشارة إلى خطورة ابتعاد أبناء الجيل الراهن عن كلمات اللغة العربية وروعة أسلوبها البلاغي وصياغتها المبهرة، فإن اللغة العربية أكثر لغات العالم ثراءا في عدد مفرداتها البنائية وتعدد مترادفاتها، فقد أشار الباحثون المتخصصون في مجال اللغات إلى أن اللفظ الواحد في اللغة الإنجليزية يقابله أربعون لفظا مرادفا في اللغة العربية، فمن ذلك مثلا كلمة ((Friend يقابلها تنوعا مهولا من كلمات اللغة العربية مثل (الصاحب والصديق والرفيق والخليل…وغيرها)، والأروع من ذلك أن كل مفردة لا تساوي الأخرى في المعنى الدقيق عند الوصف، وإنك تجد في اللغة العربية مهابة وإجلالا ووقارا لا تجده في سائر اللغات الأخرى على الإطلاق عند سماع وقع ورنين كلماتها، فكان الأولى والأجدر أن نعتز بلغتنا ونعلم أبنائنا الصغار منذ نشأتهم ألا يفرطوا فيها من باب التباهي بكلمات أخرى ليست من لغتنا إلا وقت الضرورة لذلك، وأطلب ممن يفعل ذلك أن يطرح على نفسه سؤالا محددا: (هل صاحب اللغة الأخرى يستخدم مفردات لغتك العربية من باب التباهي أيضا؟؟ أم أن لغتك رخيصة القيمة فاستبدلتها بمفردات لغته؟؟).
وختاما يكفيك أن تعلم أن الله تعالى قد اختار أن يختتم سلسلة أنبيائه ورسله بنبينا العربي العظيم صلى الله عليه وسلم صاحب اللسان البليغ والقول المبين، وأن الله تعالى جعل آخر كتبه السماوية وهو شريعة آخر الزمان لكل الدنيا باللغة العربية الإعجازية، ويكفيك أن تعلم حديث الله تعالى مع خلقه ومحاسبته لهم يوم القيامة باللغة العربية، ومن لا ينطق بها سينطقه الله بها بإرادته العليا، وحديث أهل الجنة اللغة العربية، وحديث الملائكة باللغة العربية (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) صدق الله العظيم.
فكان الأحق والأجدر بأبناء هذه اللغة العظيمة الراقية ألا يتركوها ويذهبون إلى غيرها بلا طائل؛ ففي ذلك ضياع لمعالم الهوية الشخصية بأكملها.
معالج نفسي معتمد من وزارة الصحة
وعضو الجمعية المصرية للمعالجين النفسيين