
كنتُ أسمع صَكيك البنادق وهي تحتك ببعضها البعض خلف ذاك المبنى المُتهدم بعض الشيء والذي يُرفرفُ فوقه علم “إسرائيل” بانسيابية في الهواء الطلق، فترقبتُ مُنتظرًا لمن سيأتي من خلف هذا الباب، فجاء جندي إسرائيلي يُمسك بسلاحه الفتاك وينظر لي دامرًا، فاكتفيت بالنظر لفوهة بندقيته ساكنًا، بعدما تيبست قدماي في مكانهما واستنشقت الهواء ببطء شديد حتى لا أُحدِثُ أي ضجيج، فهؤلاء الأبالس لا يفرقون بين رجل وامرأة، أو كهل وطفل فهم يُبيدون من يقف عائقًا في طريقهم.
فَطِفلًا مِثلي لا حول له ولا قوة ماذا سيفعل في مُجابهة ذاك الخراب؟!. فقد هَدموا المدارس التي نتعلم بها بالقاذفات الصاروخية، ودمروا نصف المدينة بالصواريخ الفتاكة التي تفتك بمن يعاديها، وأصبحتُ يتيمًا بلا أب أو أم أو عائلة، فبعدما تم الفتك بعائلتي وأنا الناجي الوحيد منهم، لأنني كنتُ ألعب مع أطفال المدينة الذين يَقِلُونَ يومًا وراء الأخر، ولا نلبث إلا أن نرى جُثة الطفل الذي كان يضحك ويلعب معنا بالأمس، فكانت ملاجئ الأيتام تساندنا وتساعدنا من أجل الحياة بشرف، ولا نعيش كمثل هؤلاء الأبالسة “الإسرائليين” الذين سيعيشون ويموتون دون شرف ولا كرامة أبدا.
فقال لي وأنا أحاول باستماتة تحريك قدمي بتروٍ للإبتعاد من أمامه: اذهب من هنا حالًا يا ابن….
فوضعت يدي على أُذني؛ لكي لا أسمع هذا الوابل من الشتائم الساقط عليّ، ولُذتُ بالفرار بعدما صَوب نحوى ببندقيته، فسقطتُ عدة مرات من خوفي من أن يعدوا خلفي، فوجدتُ بعدها منزلٍ مهجور مُتهالك قليلًا فدلفتُ للداخل وأحكمت إغلاق بابه خلفي، وجلست القُرفُصاء وأنا أضع وجهي بين قدمي، فسمعت بعدها طلقات النار تخترق الهواء وتضرب هنا وهناك، فقفزت من مكاني عندما اصطدمت بعض الطلقات على باب البيت فهرولت للخروج منه فلم أجد غير النافذة، تعلقت بها ومن ثم قفزت منها، ونظرت يمينًا ويسارًا وعُدتُ مُسرعًا، فأُصيبَ البيت بِقذيفة إسرائيلية والذي جعلت النيران تتأجج فيه وترتفع منه ألسنة اللهب مُعلنةً نجاح القذف.
فوقعتُ مَسحولًا بالرمال وأنا أحاول وضع كلتا يداي علي وجهي لحمايته، وبعدما هدأت النيران قُمتُ بِصعوبة وأنا أشعر بألمٍ رهيبٍ في قدمي اليُسرى فاتكأت عليها بِجزعٍ، وأنا أحاول منع سُقوط الدموع المُنهمرة من مُقلتاي؛ لكي لا يراني أحدٌ هكذا، وجدتُ الملجأ على بُعد خطوات فتحاملتُ على نفسي، وعندما وصلت وجدت وابلًا من الطلقات تأتي من خلفي فتصطدم بالباب أمامي فأُصيبَ ذراعي الأيمن بطلقة وأتت بعدها مُباشرةً طلقة أخرى بجانبها فانفجرت نافورة دماء قاتمة وتناثرت على وجهي وملابسي ووقعت أرضًا والدمع ينساب على خدي دون توقف.
حاولت تكوير يدي اليُسرى لمنع النزيف، وبدأت أتخبط بكامل جسدي على باب الملجأ حتى سمعت صوت المزلاج يُفتح ببطء فدفعته قليلًا ودلفت للداخل، فوجدتُ المُربية قد شهقت بفزع عندما رأتني مُدرج في دمائي وهي تغلق الباب، ثُم قامت بحملي للداخل وهي تضع يديها على النزيف، ولم نلبث سويعات قليلة حتى سمعنا قذيفة تصدر صفيرًا في الهواء، وفجأة وجدتُها تقع داخل الملجأ فقلتُ كما عودني أبي: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهدُ أن محمدًا رسول الله.
تمت.